المعلق الأول:
تؤوي أنهار متنزه كروغر الوطني في دولة جنوب إفريقيا بعض أكثر الأجناس الحيوانية تنوعًا في القارة الإفريقية، وعلى مر أكثر من مائة سنة من وجود المتنزه شكلت ستة أنهار رئيسية شرعيين نهر كروغر ومنها تعد ثلاثة فقط أنهارًا دائمًا أما البقية فتدفق موسميًا فقط عند هطول الأمطار، وفي بقعة الأرض الصغيرة هذه التي تضم أكثر من عشرة آلاف فيل ومئات الآلاف من الظباء والحيوانات الضارية يعد وجود الأنهار ضرورة حياتية إلا أنها ترزح تحت ضغط مستمر.
فقد دأب الإنسان خلال توسعه الزراعي والصناعي على الإطباق على المتنزه، مطالبًا بالمزيد من المياه لاستعماله الخاص، ويتم اليوم اكتشاف كميات من المواد التي يستعملها الإنسان في المياه التي تتدفق عبر المتنزه، ويذكر منها المواد الكيميائية والفوسفات والمعادن الثقيلة، وغيرها من المواد الملوثة، كما أن استخدام الإنسان للماء يشهد زيادة مطردة.
المعلق الثاني:
توقف مؤخرًا نهر "سابي" وهو أحد الأنهار الدائمة عن التدفق للمرة الأولى في تاريخه، وتلا هذا الحدث مباشرة أكبر الفيضانات التي شهدها هذا النهر خلال قرن كامل، وهذا ما يشير إلى اضطراب في النظام البيئي في تلك المنطقة.
ثمة مخلوق شهد تلك التطورات والتغيرات كلها، وهو يقطن المنطقة منذ مئات ملايين السنين كما يعتقد العلماء، إنه تمساح النيل، وهو حيوان مفترس دقيق التكوين، لم يخضع لأي تغير ملحوظ منذ ستين مليون سنة كما يقدر العلماء.
تعيش التماسيح بالآلاف في المتنزه، ويقدر عددها بأربعة آلاف وخمسمائة تمساح، ويتم اليوم كشف النقاب عن وقائع جديدة مذهلة حول هذه الحيوانات المميزة التكوين.
تخضع تماسيح نهر كروجر اليوم لدراسة علمية على أيدي البشر.
لقد تم نصب الشراك على طول نهر "أوليفانتس" في المتنزه للقبض على التماسيح، ومن ثم تزويدها بأدوات تعقب بغية التمكن من متابعة تحركاتها.
المعلق الأول:
حارس الغابات والباحث "دونس وانيبون" هو أحد المسئولين عن الأبحاث التي تجري على تماسيح نهر كروغر، أطلق عليه زملاؤه في المتنزه اسم "سواني" وقد تمكن من القبض على عدد كبير من التماسيح على طول وعرض نهر "أوليفانتس".
نجح "سواني" اليوم في الإيقاع بتمساح كبير الحجم من خلال وضع طعم داخل قفص، وما عليه الآن إلا أن يهدئ التمساح بواسطة سهم مهدئ، ومن ثم يحمله إلى ضفة النهر ليزوده بجهاز التعقب، وهذه ليست بالمهمة السهلة حتى في وجود القفص.
سواني:
هذا التمساح الذي يبلغ طوله ثلاثة أمتار ونصف المتر سيكون التمساح الثاني عشر الذي يحمل جهازًا خاصًا بالتعقب.
المعلق الثاني:
يولد إطباق فكي التمساح ضغطًا يوازي ثلاثة أطنان في السنتمتر المربع الواحد، لذا على "سواني" أن يحرص على شل حركة التمساح.
المعلق الأول:
اكتشف "سواني" أن التماسيح إقليمية بطبيعتها، ولكن خلال موسم التناسل فقط، ففي فترة التناسل يمكث الذكور الكبار في منطقة معينة، ويدافعون عنها، وساهم اكتشافه هذا في حل معضلة كانت تواجهه، فخلال أبحاثه تعقب عددًا من التماسيح وعثر عليها أسفل مجرى النهر بعيدًا عن المكان الذي عثر عليها فيه في البداية، واقتفى أثرها حتى عبرت الحدود إلى الموزمبيق، ومن ثم عادت التماسيح ذاتها بعكس مجرى النهر، إلى الموقع الذي وجدها فيه في البداية، وتمتد تلك المسافة ذهابًا وإيابًا مائة كيلو متر تقريبًا.
يبدو نمط إقليمة التماسيح خلال جزء من السنة فقط الحل الأفضل لتلك المعضلة، وهكذا تساعده أجهزة الإرسال اللاسلكية على توسيع آفاق بحوثه.
المعلق الأول:
بعد أن انتظر "سواني" ليبدأ مفعول المهدئ بات عليه خوض مياه "أوليفينتس" والجدير بالذكر أن هذه المنطقة من نهر "أوليفينتس" تضم خمسة تماسيح في الكيلو متر المربع الواحد.
يجب على "سواني" أن يعمل بسرعة فبالإضافة إلى خطر تعرضه لهجوم من التماسيح الأخرى لا يدوم مفعول المهدئ أكثر من عشر دقائق.
يأمل "سواني" أن يكون المهدئ قد أعطى مفعوله قبل أن يشرع بتأمين فكي التمساح ليدخل القفص معه.
متحدث:
لف عقدة حول فكه الأعلى وأحكم شدها، ليمنع رأسه من التحرك عندما يدخل القفص، وكما فعل عند حقن التمساح قرر الاقتراب منه مجددًا من جهة المياه الضحلة، وهذا ما يخفف عنه خطر التماسيح المفترسة المحيطة به.
سواني:
يجب سحب التمساح إلى مسافة بعيدة عن الماء للحرص على سلامته أمام التماسيح الأخرى، كما أن التمساح يستطيع أن يرمي بنفسه من الماء على مسافة توازي ضعفي طوله ونصف الضعف.
المعلق الأول:
تتمتع التماسيح بمجموعة أسنان مذهلة وأكثر ما يميزها هو أنها تظل ظاهرة حتى عندما يطبق التمساح فكيه.
يغطي "سواني" عيني التمساح قبل تثبيت جهاز الإرسال اللاسلكي، ويساهم ذلك في تهدئة التمساح والتخفيف من حدة توتره خلال العملية.
يثبت جهاز الإرسال بين صفيحتين عظميتين على ظهر التمساح.
تتكون هذه الصفائح من مادة مشابهة للتي تتكون منها الأظافر البشرية، وبالتالي فهو لا يشعر بأي ألم خلال العملية.
سواني:
يجب أن يبقى جهاز الإرسال على ظهر التمساح في جميع الظروف، أكان فوف الماء أو تحته، يتم تثبيته بإحكام بحيث يظل معلقًًا على التمساح طيلة فترة صلاحيته، أي ما يقارب خمسة عشر شهرًا.
يرسل جهاز الإرسال إشارات ضمن نطاق سبعة كيلو مترات، وعندما يغوص التمساح تحت الماء تضعف الإشارة إلى أن تختفي نهائيًا.
متحدث:
تعمل أجهزة الإرسال الخاصة هذه بشكل جيد حتى الآن، ولن تتعرض لأي أعطال حتى في هذه البيئة القاسية.
تنغلق أذنا التمساح كالخياشيم المصرعة عندما يغوص تحت الماء، كما أن عيني التمساح مزودتان بغشاء واقٍ ثالث يحميهما تحت الماء، والغشاء شفاف ويسمح للتمساح بالرؤية بوضوح تحت الماء.
المعلق الثاني:
هذا التمساح بالغ ولكنه لا يزال يملك بقايا الثغرات أشبه بأغماد في فكه العلوي، ويضم كل من هذه الأغماد أسنان فكه السفلي النامية، نرى أن إحدى الثغرات قد أقفلت لدى هذا التمساح البالغ، ويُعتقد أن هذه الثغرات في الفك العلوي لو لم تكن موجودة لاستيعاب الأسنان السفلية لما تمكنت التماسيح الصغيرة من إطباق فكيها، لأن الأسنان السفلية تكون كبيرة جدًا في البداية.
قائمتا التمساح الخليفتان مزودتان بمخالب طويلة تساعده على الحفر والتحرك بدقة خلال التناسل.
وأطراف التمساح المزودة بمفاصل تسمح له بالسير أو حتى العدو على مسافات قصيرة، وهذا لأن جسمه لا يتدلى بين قوائمه بل يستعملها كدعامات، وبالتالي نرى أن التماسيح تتمتع بمرونة مفاجئة حتى على اليابسة.
المعلق الأول:
سيعيد "سواني" التمساح إلى قفصه ليحميه من الخطر إلى أن يستعيد وعيه تمامًا.
بعد بضع ساعات عندما يتأكد من زوال مفعول المهدئ سيرفع بعض القفص ليسبح التمساح بحرية ويرسل الإشارات اللاسلكية خلال رحلاته المقبلة.
متحدث:
زود "سواني" عددًا من التماسيح الكبيرة بأجهزة الإرسال خلال سنوات عمله في وادي نهر "أوليفنتس" وهو يزود التماسيح الكبيرة الحجم فقط بأجهزة الإرسال، بما أنها أقل تعرضًا لخطر الضواري.
فوجئ بالعثور على أحد تماسيحه وقد ابتعد مسافة كيلوا مترات عديدة عن موقعه الحالي.
والتماسيح حيوانات متغيرة الحرارة أي أن حرارة جسمها تتغير تبعًا لتغير حرارة البيئة التي توجد فيها.
يراقب "سواني" أيضًا مواقع وأنماط التناسل لدى التماسيح، وانضممنا إليه في مهمة من هذا النوع فيما كان يبحث عن تلك المواقع من الجو.
المعلق الثاني:
انطلقنا من مخيم "أوليفنتس" لنحلق على طول النهر المنساب شرقًا.
هذه منطقة لم ترها إلا حفنة قليلة من البشر.
يقدر "سواني" وجود 45 تمساحًا بالغًا تقريبًا في الكيلو متر الواحد في هذه المنطقة، وهي الكثافة الأعلى في إفريقيا.
إنه يحصي التماسيح التي يراها، وسرعان ما يعثر على ضالته، فقد شاهد علامات حفر بالمخالب في الرمل.
المعلق الأول:
يبدو أن عضاءة اكتشفت البيوض والتهمتها قبل وصولهم إلى الموقع.
تظل التماسيح الصغيرة ضعيفة ومعرضة للخطر خلال السنوات الأربع أو الخمس الأولى من حياتها، وتقضي معظم أوقاتها في مياه راكضة أو في المستنقعات البعيدة عن مجرى النهر.
يبلغ طولها عند تفقيسها ما بين ثلاثين أو خمسة وأربعين سنتيمترًا وقد تكون هذه التماسيح العشرة الصغيرة هي التي تبقت من مجموعة بيض تضم اثنتين وثلاثين بيضة تقريبًا، ومن بين التماسيح العشرة المتبقية قد يعيش واحدًا فقط حتى سن البلوغ.
يمكن أن يعيش التمساح الناجي من هذه المجموعة - إن قدر له الله - حتى سن 120 عامًا في البرية وفي تلك الفترة ينموا ليبلغ طوله خمسة أمتار، والتمساح الذي يبلغ هذا الطول عادة يزن قرابة ألف كيلو جرام.
المعلق الثاني:
تقضي التماسيح الحديثة التقفيس معظم أوقاتها خارج الماء، وتتغذى في البداية من المواد الغذائية الموجودة في محِّ بيوضها، ثم تشرع باصطياد الطرائد الصغيرة كالحشرات ومن ثم الضفادع والشراغف، وتنتقل أخيرًا إلى الأسماك والثدييات وكذلك التماسيح الأخرى.
سواني:
بما أنه صغير جدًا لم يتعرف إلي بعد على أنني عدوه الطبيعي، ويتقبلني وكأنني أي مخلوق آخر، هذا نداء استغاثة، ولا ريب في أنه سيلفت انتباه الأنثى التي ستبحث عن سبب هذا النداء.
المعلق الأول:
حتى عندما تبلغ التماسيح سن النضوج فهي لا تسلم من هجمات التماسيح الأخرى، وهذا ما يلاحظه "سواني" من الجو، يشير عدم وجود أي جروح في جسم هذا التمساح النافق إلى أنه مات من أسباب أخرى.
غالبًا ما تلجأ التماسيح إلى تقنية نصب الشرك، فتقبع في وضعية معينة، وتنتظر طريدتها لتسبح إلى داخل فكيها.
قدر "سواني" أن عدد التماسيح في نهر كروجر سليم، ولكنه قلق من التلوث في نهر "أوليفنتس" لاسيما بعد أن اكتشف نسبة عالية وخطرة من المعادن في التماسيح هنا.
المعلق الثاني:
"أندرو دريكون" علام رئيسي من علماء متنزه كروغر وخلافًا لطائر اللقلق يضطر "أندرو" وفريقه إلى اللجوء إلى وسائل عديدة وسريعة للالتقاط الأسماك ومراقبتها.
يستخدم "أندرو" وطلابه هنا المسابر الكهربائية لمساعدتهم على التقاط الأسماك فيصعقونها مؤقتًا بحيث يتسنى لهم تمييز بعضها من بعض، ولكن بالطبع لا تخلو من عملية التقاط الأسماك في الأنهار الإفريقية من الخطورة فهذه السمكة الصغيرة تستطيع أن تخترق يد إنسان بزعنفتها المسننة، وهذه أقل المخاطر التي سيواجهونها في أنهار المنطقة.
فالمسابر ليست فعالة مع الأسماك الكبيرة في المجاري المائية الأساسية، ولكنها تستطيع أن تشير إلى تنوع الأسماك الصغيرة في النظام المائي.
متحدث:
ومن بين مفاجئات اليوم عثروا على سلحفاة مياه عذبة لا تعيش عادة في هذه البيئة، وعضاءة ماء ترغب في تناول بعض تلك الأسماك.
كان العمل مجديًا بالنسبة لـ"آندرو" وهو يرتاح وفريقه الآن لتسجيل وتصنيف الأسماك التي التقطوها، وهي أشبه بنسخ صغيرة عن الأسماك الأكبر حجمًا في المياه العميقة.
يعيش أكثر من واحد وخمسين نوعًا من الأسماك في أنهار كروجر ومن بين الأنواع الأكثر شيوعًا نجد البربيس وسمكة الوحل والمنوة التي تتوزع على عشرة أجناس.
تخضع السمكة الشوكية التي تتميز بسلاحها الفريد من نوعه لدراسة أخرى من أجل الطلاب.
المعلق الثاني:
وتعد سمكة البلدق التي تستعمل دفعة كهربائية لتصعق طريدتها وتلتقطها في الماء عينة غريبة أخرى من الأسماك، وثم طريقة أخرى يعتمدها العلماء خلال دراسة الأسماك، وتقوم على استعمال الشباك.
يتم اختيار حوض أو مجرىً مائي معين وإحاطته بالشبكة، يمكن احتواء عشرات من أنواع الأسماك لفترة قصيرة بغية تعيينها مما يساعد على اكتشاف الأنواع الجديدة منها، كما يسمح بمراقبة التقلبات التي تطرأ على بعض الأجناس الحيوانية.
المعلق الأول:
إلا أن التحدي الأكبر يظهر في إيجاد الوقت الكافي لمراقبة أنظمة النهر المعقدة، على الرغم من جمال بيئة العمل وروعتها.
يلجأ "آندرو" أيضًا إلى إلقاء الشباك لالتقاط الأسماك، بالأخص في الأحواض العميقة التي يصعب الخوض فيها، كما أن هذه الشباك تساعده على التقاط أنواع مختلفة وكثيرة من الأسماك بطريقة سلمية وغير مؤذية.
المعلق الثاني:
قد تبدو عملية المراقبة مبهجة للصيادين، إلا أن العمل شاق ويستغرق وقتًا طويلاً، ولعل أكثر ما قد يسوء الصيادين هو أن عليهم إرجاع الأسماك إلى الماء بعد تعيينها، ففضلاً عن عمل "آندرو" وفريقه في متنزه كروجر عليهم أيضًا الحرص على وصول الأسماك بأمان إلى موطنها، تحتاج أنواع كثيرة من أسماك المتنزه إلى النزوح بعكس مجرى النهر إلى مواقع التناسل لتضع بيضها، مما يدعو إلى حماية مجاري النهر وصيانتها.
تستطيع الأسماك المتناسلة وفراخها في بعض المناطق التحرك بسهولة بعكس مجرى التيار وفي اتجاهه، ولكنها تعجز عن ذلك في مناطق أخرى.
متحدث:
نزوح الأسماك لا يفيد الأسماك وحدها، فهو ظاهرة تعود بفوائد جمة على نظام النهر البيئي برمته.
كل عام تنتقل مئات من هذه الأسماك الصغيرة عبر نهر سابي، وتساعدها وفرة عددها على تأمين بقائها وبقاء أنواع كثيرة أخرى من الطيور المائية والزواحف وغيرها من الكائنات الحية في النهر.
ونظرًا لكثرة الأسماك سرعان ما تضخم الحيوانات التي تفترسها، وهكذا يمر الكم الأكبر من فوج الأسماك بسلام.
هذا زمن وفرة وجمال بالنسبة للسياح الذين يرتادون المتنزه لكثرة أنواع الطيور المائية فيه.
ولكن مع انخفاض معدل تدفق الأنهار في متنزه كروغر موسميًا وبالإجمال لا تصل أسماك كثيرة إلى موطنها، فهي تعجز عن السباحة بعكس المجاري المائية الشحيحة وصولاً إلى السدود فلا تضع بيضها ويضطر حماة الموارد البيئية إلى التدخل، وإلا لضاعت أجناس كيثرة من الأسماك.
المعلق الأول:
نشأت مشكلة أخرى عند الأنهار وهي أن السدود والسياجات المائية المشيدة في المنطقة لن تأخذ بعين الاعتبار مسألة نزوح الأسماك فهناك آلاف الأسماك وحتى السباحة القوية منها كالبربيس مثلاً التي لا تستطيع أن تسبح إلى أعلى الشلالات السحيقة التي تواجهها في بعض برك الأمطار على طول الأنهار.
يمكن أن تؤدي هذه الحواجز إلى تجزئة نظام بيئي بكامله والقضاء على جنس حيواني بكامله.
وبما أن أسماك البربيس تشكل مصدر غذاء رئيسي للتماسيح الصغيرة يمكن أن تنشأ عن غيابها سلسلة من ردود الفعل البيئية.
المعلق الثاني:
تضعف هذه السمكة من المحاولة وتستكين فتصبح فريسة سهلة للحيوانات المفترسة المنتظرة.
بعض الضراوة بين الحيوانات أمر طبيعي، ولكن عندما تعجز الأسماك عن متابعة سبيلها باتجاه مياه أعمق يتحول النهر إلى حقل قتل.
تحتاج أسماك البربيس إلى النزوح إلى مستنقعات معشوشبة ضحلة بعكس مجرى التيار حيث تضع بيضها، وتضع كل سمكة قرابة نصف مليون بيضة.
ويبقى السؤال: كم منها ستتمكن من بلوغ غايتها؟
لحسن الحظ الإجابة موجودة في برنامج تعاون مستمر بين الدكتور "ديكون" وفريقه ووزارة الشؤون المائية والغابات في جنوب إفريقيا.
متحدث:
لقد تم بناء سلسلة من السلالم والممرات المخصصة للأسماك النازحة في كروغر، صممت هذه الأدراج لمساعدة الأسماك على التنقل مع مجرى التيار وبعكسه على سجيتها، كما وتستطيع أن ترتاح خلال رحلتها، يبلغ ارتفاع كل من الأدراج ثلاثين سنتيمترًا وهو الارتفاع الذي تستطيع سمكة المينوا بلوغه، وحتى عندما لا تفيض مياه السد الرئيسي تظل ممرات الأسماك مغمورة بالماء على مدار الساعة.
يدأب "آندرو " وفريقه على صيانة هذه الممرات ومراقبتها في متنزه كروغر، ويتعاونون مع وزارة الشئون المائية في بناء ممرات جديدة من هذا النوع.
يمكن أن تنسد ممرات الأسماك أحيانًا لذا يجب تنظيفها بشكل مستمر، يغتنم "آندوا" وفريقه الفرصة لمراقبة الأجناس السمكية التي يجدونها في الممر، وتدفق الماء المستمر ضروري جدًا لا بل حيوي في مجاري الأسماك هذه لأن الأسماك تشعر بتدفق الماء وتتحرك باتجاهه بما أنها تبحث عنه باستمرار.
المعلق الأول:
تخضع المجاري السمكية لمراقبة دائمة وشاملة، وكذلك المجاري المائية المحيطة بها، يريد "آندرو" أن يتأكد من فعالية النظام بكامله، وليس هذه الحلقة الحيوية منه فقط، وهدفه الرئيسي هو تجنب تقسيم الأنهار إلى أجزاء وفئات.
وترمي خطته إلى توحيد الأسماك وأنظمة النهر أيضًا التي تغذي بدورها أنظمة حياتية أخرى متصلة بها.
وبالإضافة إلى فوائد المجاري السمكية التي ذُكرت آنفًا نذكر أنها تؤمن وصول الأسماك إلى مواطن تناسلها، وحصول الأسماك الصغيرة على وقت كافٍ لتنموا بعيدة عن خطر الضواري، فالأنهار تتغير تفيض أحيانًا وتجف أحيانًا أخرى، ومخزون الغذاء الذي تحمله يتنوع ويختلف.
متحدث:
وآندرو يدرس أيضًا هذه المؤشرات على صحة النهر، هذه المخلوقات الصغيرة كروبيان المياه العذبة والحشرات تجمع وتصنف في مجموعة مختارة من المواطن النموذجية لها على طول النهر، وتحتل المراقبة الميدانية حيزًا كبيرًا من الأهمية أيضًا؛ لأن وجود حشرة اليعسوب هنا مثلاً يعتبر مؤشرًا جيدًا.
إن غياب هذه المخلوقات الصغيرة أو انخفاض عددها أو حتى زيادته يمكن أن يكون مؤشرًا على وجود مشكلة بيئية ما، كما أنها تتفاعل بسرعة مع التغيرات التي تطرأ على الماء مما يجعلها مقياسًا للتغيرات.
المعلق الثاني:
عندما تفقد أجناس حيوانية نادرة أو معرضة للانقراض يجب استبدالها بأسرع وقت ممكن، وهذا ما حصل بالنسبة لجنسين من هذه الأسماك الصغيرة، هاتان السمكتان موسميتان خلافًا لمعظم الأسماك الأخرى، تنمو في المناطق المائية الصغيرة والمحصورة وإذا جفت هذه المناطق تضع بيضها ومن ثم تموت، وتظل البيوض حية في الوحل الجاف بعد أن تكون الطيور الكاسرة قد اقتاتت بالأسماك النافقة، وبعد هطول الأمطار تفقس البيوض وتستمر بفضل الله تعالى دورة حياة هذه الأسماك، ولكن سجل في الآونة الأخيرة غياب إحدى هاتين السمكتين في المنطقة، وبفضل الله -تعالى- تمكن العلماء من إعادتها.
المعلق الأول:
يظهر هذان النوعان من الأسماك وهما "نشوبرانشوس أوثروناتوس" و" نشوبرانشوس راشوي" في حوض مائي واحاد فقط في متنزه كروغر الوطني عند حدود موزمبيق.
تعرض الحوض لأضرار جسيمة في ظل دوريات الحدود إبان حقبة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وخلال الجهود اللاحقة الساعية لاستعادة الحوض ومراقبة الأجناس السمكية تبين أن الـ"نشوبرانشوس راشوي" قد انقرض في المنطقة.
وفيما ظهرت في الحوض أجناس حيوانية أخرى كحشرة الماء هذه، وهو ذكر يحمل البيوض التي وضعتها الأنثى على ظهره، لم يعثر على فصيلة سمكة "راشوي" البتة، ولكن لحسن الحظ كان باحث كندي يدعى الدكتور "براين وترز" قد جاء إلى المنطقة قبل سنوات وجمع بعض عينات الأسماك وأخذها إلى كندا، وتمكن خلال سنوات من المحافظة عليها، فعاد ليتعامل مع "آندرو" في سبيل إعادة هذه السمكة إلى موطنها السابق.
كانت الأمطار غزيرة مما ساعد الفريق على تنشئة مجموعة كافية من فصيلة هذه السمكة قبل إعادتها إلى مياه الحوض.
متحدث:
يختبر الدكتور "وترز" حرارة المياه وبيئتها للتأكد من صلاحيتها لهذه الأسماك.
يجب إطلاق سراح الأسماك في ظروف مثالية وإلا ضاعت سنوات من الأبحاث سدىً.
جرت عملية الإعادة على ما يرام - بفضل الله تعالى- وتم إطلاق سراح الأسماك في موطنها السابق بعد رحلتها الطويلة عبر القارات.
ستخضع هذه الأسماك لمراقبة سنوية مع الحفاظ على مجموعة احتياطية منها، تحسبًا لأي طارئ في المستقبل.
ولكن سيكون على هذه الأسماك الآن أن تصمد أمام تحد أكبر من المختبرات والسفر الجوي، فعليها أن تتعلم العيش في حوض المياه الإفريقي هذا.
المعلق الثاني:
أكبر التحديات التي يواجهها العلماء في الأنظمة الطبيعية مثل أنهار كروغر هو استحالة التنبؤ بالأحداث الطبيعية وتأثيرها في النظام البيئي.
وقعت أسوأ الفيضانات التي ضربت هذه الأنهار خلال مائة سنة تقريبًا، حدث ذلك في أواخر شهر كانون الأول ديسمبر عام 1999.
بدأ هطول الأمطار ولكن كان ذلك في موسم المطر لذا لم يعر المراقبون الأمر أهمية كبيرة وعندما أصبحت الأمطار غزيرة عم جو من الفرح، لأن متنزه كروغر الذي يمتد على مساحة مليوني هكتار منطقة شحيحة المطر، وكانت هناك سدود وأنهار كثيرة بحاجة إلى الملء، ولكن المطر استمر بالهطول دون توقف، تراكمت الغيوم الداكنة يومًا بعد يوم وخيمت على الأرض والأنهار.
المعلق الأول:
من حسن الحظ لم يهطل المطر في الليلة التي سبقت الفيضانات، وإلا لتسبب ذلك في غرق مئات الأشخاص تلك الليلة.
لكن في اليوم التالي هطلت الأمطار بغزارة بالغة لم يسبق لها مثيل في تاريخ المنطقة، وغمرت متنزه كروجر فقد بلغ معدل الهطول في يوم واحد خمسمائة ميليمتر من الماء، وللمرة الأولى في تاريخ متنزه كروجر امتلأت الأنهار كلها، وهذا ما لا يذكر أحد حصوله من قبل، فقد حملت كل الروافد والجداول وبرك الأمطار كمية من الماء تفوق قدرتها على الاستيعاب، وبسبب الأمطار السابقة ما عاد النهر يتسع لملايين الأطنان الجديدة من الماء.
وشرع البعض في إخلاء المنطقة قبل فوات الأوان، وبينما هم موظفو المتنزه كروجر أنفسهم، كما رحل كثيرون من أبناء البلدات والقرى المحيطة بالمتنزه.
جهزوا أمتعتهم وسارعوا إلى عبور الجسور قبل انقطاع الطريق.
انتقلت الحيوانات إلى مناطق أكثر ارتفاعًا لتجنب العاصفة كما تفعل دائمًا، إلا أن ذلك لم يحل دون غرق عدد كبير منها في النهر.
امتلأت الأنهار واستوعبت من المياه ما يفوق طاقتها، إلى أن انفجرت في النهاية وبدأت الكارثة الطبيعية، فقد فاضت الأنهار وأخذت تدمر كل ما في سبيلها وكانت الجسور أولى ضحاياها.
متحدث:
عندما فاضت المياه على الجسر المرتفع فوق نهر سابي الذي يرتفع في أيام الجفاف خمسين قدمًا عن سطح الماء أصبحت الكارثة رسمية.
هذا ما كان عليه الجسر قبل شهور من الفيضانات.
في شهر كانون الثاني يناير من عام 2000 كانت الفيضانات الرهيبة تهدد بتدمير كل شيء في طريقها، ولكن حتى تلك اللحظة لم تكن الفيضانات قد انطلقت بقوتها الكاملة؛ لأن الأمطار لم تتوقف لحظة عن الهطول.
ولكن المطر كان حميدًا بالنسبة للحيوانات فهو يؤمن لها - بفضل الله تعالى- غذاءً كافيًا ووفرة من الماء، إلا أن هذه الحيوانات لم يوفق بعضها كسعدان الرباح هذا الذي ظن أنه وجد الأمان على جذع شجرة عائم، لم يأمن شيء من مجرى الأنهار التي اتسعت لتبلغ عشرة أضعاف عرضها الأصلي، والتي زادت عمقًًا.
تحولت الأنهار إلى بحار فتاكة ومدمرة.
دفعت كل الجسور الواهية والضعيفة التي اعترضت سبيلها.
وفي موزمبيق تسببت الفياضات بكارثة دولية وحصدت أرواح المئات من البشر.
في قرية "سكوكوزا" التي تؤوي آلافًا من موظفي متنزه كروجر وعائلاتهم أحدثت الفيضانات أضرارًا جسيمة، لم تزهق أية أرواح في القرية - بفضل الله تعالى-، و لكن المدارس والمنازل تحولت إلى دمار وركام، ولم يتمكن السكان الذين قبعوا في كروجر من الرحيل إلا جوًا.
وأدت الأضرار الكبيرة إلى شل حركة المتنزه شهورًا طويلة، وهو أحد أهم المواقع السياحية في جنوب إفريقيا.
ولكن لحسن الحظ توقفت الفيضانات وحان الوقت لإعادة البناء وإعمار كل ما تدمر من صفوف ومكاتب وجسور ومستندات.
وتغير شكل الأنهار أيضًا تغيرًا كبيرًا، فقد عبرت سهولاً إضافية وغمرتها بالمياه لتوسع حدود ضفافها القديمة، وشقت طريقًا لها عبر الأدغال، ومن الآن فصاعدًا ستكون أنهارًا مختلفة الشكل والطبيعة.
ترك مسئولو المتنزه والساعون للحفاظ على البيئة الأنهار لتجري في مجراها الطبيعي الذي قدره الله لها بعد الفيضان، وصبوا تركيزهم على إيجاد غرف مدرسية جديدة وكتب مدرسية جديدة وتنظيف الدمار والخراب في "سكوكوزا".
ظلت بعض الأنهار تتدفق بمستويات تفوق مستواها الطبيعي في بعض المناطق فأتلفت الطرقات وخطوط الاتصالات كلها، وانقطع الجزء الأوسط من المتنزه عن بقية العالم.
استنفذت موارد المتنزه إلى أقصى حد بغية معالجة مخلفات الكارثة، فاستعملت المروحيات التي كانت مخصصة لمشاريع الحفاظ على البيئة في مهامات الإنقاذ، ولم يبدأ التكفير في المستقبل في تلك المرحلة.
وأثبت حراس كروجر وعماله وطياروه وجميع المسؤولين فيه أنهم يملكون بفضل الله -تعالى- أنهم يملكون المقومات اللازمة لمقاومة الكارثة معًا.
المعلق الأول:
ولكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى يبدأ المسئولون بتقدير الأضرار التي سببتها الفيضانات في هذه المحمية الطبيعية الكبرى.
كان الدمار الذي خلفته المياه ظاهرًا في البنى التحتية المحاذية لمجرى النهر، أما جسر السابي فقد زال من الوجود.
وتضررت كل الجسور المؤدية إلى متنزه كروغر الوطني، فقد غيرت وجه الخريطة تقريبًا، وسبحان الله القادر الذي منح الماء هذه القوة الجارفة ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ [المدثر: 31].
وكان ظاهرًا أيضًا أن الفيضانات أودت بمساحة واسعة من الغابة المحيطة بالنهر، وبالكائنات الحية التي تعيش فيها، وعلى طول ضفتي النهر انقسمت الأشجار العملاقة وزال بعضها كليًا.
المعلق الثاني:
ولكن خلافًا للأشجار تمكنت مجموعة أفراس النهر بفضل الله -تعالى- من البقاء، قال البعض إنه شهد أفراس النهر تغادر الماء وتبتعد عنه قبل العاصفة، ولا يزال الكثيرون يعتقدون أن هذه الحيوانات تستطيع أن تتنبأ بالفيضانات قبل حدوثها، ما زال العلماء يجهلون السبب الذي دفعها للابتعاد ووقاية نفسها.
لا تزال أفراس النهر في متنزه كرجغر في حالة سليمة ولله الحمد، وتعيش هذه الحيوانات في المنطقة منذ مليون سنة على الأقل هذا ما يعتقده العلماء.
وإن كانت هذه الحسابات دقيقة فعلاً فلا ريب أن عائلتها القديمة شهدت كل التغيرات التي طرأت على النهر على مر السنين.
يقود الذكر الرئيسي عائلة أفراس النهر وهو يتمتع بنابين سفليين كبيرين ينموان إلى طول سبعين سنتيمترًا تقريبًا، ولكن نابي هذا الذكر بالذات معقوفان بشكل غريب وعلى غير عادة، يسيطر الذكر الرئيسي على إقليمه خلال فترات طويلة، وربما خلال فترة بلوغه كلها، أي خلال عشرين إلى ثلاثين سنة.
يحدد فرس النهر منطقته الخاصة بواسطة الروث والبول وبرفرفة ذيله القصير بصوت مرتفع.
تدافع أفراس النهر عن أماكنها الخاصة بالشراسة، حتى أنها تقاتل حتى الموت عندما يتحداها فرس آخر دخيل.
غالبًا ما يحمل الذكور البالغون آثار القتال، ويبدو أن هذا الذكر قد خاض عراكًا حديثًا لأن جراحه لا تزال تنزف.
تتألف مجموعات أفراس النهر النموذجية من الإناث وعجولها والذكور الصغيرة، تعيش الذكور عادة وحيدة ولكنها تملك الحق الحصري بالتزاوج مع كل الإناث الموجودة في منطقتها الخاصة.
تستطيع أفراس النهر البالغة البقاء تحت الماء قرابة الست دقائق، وتستطيع العجول أن ترضع تحت الماء.
بفضل الله تعالى لا تزال مياه كروغر موطنًا للحيوانات كلها، لقد تغيرت المجاري المائية تغيرًا كبيرًا في حياتنا، ولكنها لا تزال تحمل برحمة الله سبحانه الحياة والوفرة.
تبدلت القوانين المائية اليوم وصنفت أنهار متنزه كروجر محميات بيئية.
أمن القانون حدًا أدنى من التمويل لمتنزه كروغر وأعيد النظر في القوانين التي تُعنى بالتلوث أيضًا.
أثرت التغيرات التي طرأت على النهر في سير الحياة فيه، فظهرت مياه ضحلة في مياه البرك والعكس بالعكس، إلا أن نباتات النهر ومخلوقاته قادرة بفضل الله -تعالى- على التكيف مع الظروف المستجدة، بما حباها الله من قدرات خاصة تحقق لها ذلك.
وفيما تجري الأنهار ستجد دائمًا الحياة هنا إلى أن يشاء الله -سبحانه وتعالى-